والتجربة الكبرى التى نعد وجودنا لها، هى تجربة خروجنا من هذه الأرض. الكل يعد وجوده لهذه اللحظة الفائقة، لحظة الانتقال من هذه الأرض، وحتى تستطيع أن تمر فيها بسلام، فأنك عليك أن تجربها فى حياتك "موتوا قبل أن تموتوا"، "لاتملك نفس لنفس شيئا".

0.5

إن الإنسان لا يتعلم إلا من التجربة التى يمر بها ويمارسها، فإن كان مستعدا لها مهيئا وجوده لخوضها، كان مروره فيها إضافة لمعانيه الحقية، إضافة لمعنوياته ولحياته النورانية، أما إذا كان غير معد نفسه لها، فهو يخسرها، وخسارته ليست فقط فى أنه لم يستطع أن يضيف لمعانيه، وإنما أيضا لأنها سوف تزيد من ظلامه، ومن نسيانه، فهناك الإعداد قبل التجربة، وهناك العلم قبل الاختبار، وهذا ما نهيئ أنفسنا له، بتواصينا بالحق والصبر، نعد أنفسنا بأن نتعلم كيف تكون الاستقامة، وكيف يكون الإنسان جادا فى سعيه فى الله، وفى علمه عن معانى الحياة، والدين يوضح للإنسان ذلك، ويضرب الله الأمثال للناس، ويقص عليهم أحسن القصص، ليريهم أنفسهم فيما هم قادمون عليه، وفيما هم معرضون له، حتى إذا قابلتهم التجربة، استرجعوا ما تعلموا، وخاضوها بسلام وأمان.

0.47

ولذلك، نجد مثلاً "إِلَّا الْمُصَلِّينَ"، فنتيجة التجربة إنّ الإنسان حين يرى نفسه "وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً"، فيرى نفسه يستأثر بما أعطاه الله، فيتعلّم في تجربةٍ ما، كيف أنّه يجب أن يكون أداة خيرٍ للنّاس فيما أعطاه الله، حين يتعرّض هو لتجربةٍ يحتاج فيها إلى عونٍ ولا يجد من يعينه يتذكّر يوم كان هو في حالٍ يمكنه أن يساعد الآخرين ولم يساعدهم ـ تجارب الحياة.

0.32

إنّ الإنسان على هذه الأرض يمرّ بمراحل كثيرة، فقد يتصوّر في لحظةٍ من اللحظات أنّه قادرٌ بالأسباب وبالشّهادة وبالقوانين الماديّة، أن يغيّر أيّ شيء. وفي لحظاتٍ أخرى قد يعتقد أنّه لا يستطيع أن يغيّر أيّ شيء. والحقيقة ليست في هذا أو ذاك.

0.31

نحن نتذاكر حتى تتسع مداركنا.. وباتساع مداركنا نقوم في تجارب كثيرة ونمر بتجارب كثيرة.. نتذاكر ونجتمع ونذكر وندعو حتى نأخذ قوة تساعدنا أن نمر في تجاربنا على هذه الأرض فنكسب حياتنا.. والإنسان لا يجب أن يهرب من التجربة ولا يجب كذلك أن يستعجلها.. فالتجربة سوف تجيء له في الوقت المناسب.. فعليه أن يعدّ نفسه لها بالدعاء وبالرجاء وبالتعرض لنفحات الله ورحماته حتى إذا جاءته يكون أهلاً لها وتكون خيراً له لأنه بمروره بها يرتقي في الله وبفشله فيها يخسر في الله.. ولكنه عليه أن يحاول ويحاول ويحاول.. ولا يعني الفشل أن يهرب الإنسان من تجربته وإنما عليه أن يطلب مزيداً من رحمة الله ومن قوة من الله حتى يمر بها.. لأنه هذا هو الطريق الذي يجب أن يسلكه.. ووقوفه دون أن يمر لا يعني كسبا وإنما يعني توقفاً وخسارةً.. فليس أمامه إلا أن يحاول ويجاهد وهذا هو الجهاد الحق لا يجب أن يولي الأدبار أو ييأس من رحمة الله.. وإنما عليه أن يكون مجاهداً في سبيل الله لا ييأس ولا يتخاذل ولا يتكاسل ولا يولي الأدبار إنما يُقدم بقوة من الله وبفضل من الله وبرحمة من الله يسأل الله ويدعو الله أن يعينه حتى يمر من هذه التجارب مروراً ناجحاً ويكسب في الله أكبر.

0.3

إن الإنسان مطالَب في كل عصر أن يتفكر فيما أنزل الله.. مطالبُُ أن يمر بالتجربة التي يمر بها كل إنسان على هذه الأرض.. تجربة الإيمان.. تجربة قائمة على فهم عميق لمعنى الحياة.. وتدبر في آيات الله.. وهذا الذي يجدد الأمة ويجدد المجتمع ويجعله قويا عفيا قادرا على المجابهة وعلى الدعوة الى الحق والحقيقة..

0.3

ما أردنا أن نقوله اليوم: أن الإنسان على هذه الأرض، فى هذه الصورة التى خلقه الله عليها، هو فى مرحلة من مراحل حياته؛ فقد كان قبل أن يكون على هذه الأرض، وسيكون بعد أن يغادر هذه الأرض، وأن هذا الذى كان وهذا الذى سيكون، هو فى علم الغيب وهو عليه اليوم أن يعرف له قدوة، وأن يعرف له بيتا، وأن يعرف له بيتا؛ عمله أن يقوم فى الخيرعلى ما يرى أنه الخير، وأن يُعرض وجوده للخير على ما يرى أنه الخير، فهو لن يستطيع أن يكون إلا فيما يرى، والذى يرى لن يكون.

0.29

إن الإنسان على هذه الأرض كما نتعلم جميعا هو قيام حقى تواجد من خلال هذه الذات، التى تحمل صفات تمكنها من التواجد على هذه الأرض، من هذه الصفات الشهوات وما زُين للناس من حب للمال وللسلطان، ولأشياء أخرى فى حياته الأرضية. هذه الشهوات التى وجدت فى الإنسان لها دور فى قيام الإنسان على هذه الأرض، فبدونها لا يستطيع أن يحيا على هذه الأرض، أو أن يستمر على هذه الأرض، أو أن يتعامل على هذه الأرض، ولكن مشكلة الإنسان هى كيف يقوم أمرا وسطا فيما هو قائم عليه، وفيما هو ظاهر بملكيته إليه. ماذا يفعل؟ ماذا يطلب؟ ماذا يرجو؟ والنفس بشهواتها تلعب دورها وتؤديه كما يجب، ولكنها فى عملها هذا قد تأخذ الإنسان إلى أن يصبح عبدا لها، ويصبح فى ركابها، ليس له من هذه الأرض إلا ما تطلبه نفسه، وبذلك يفقد ما فيه من سر الله ومن نور الله "إن القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد، وإن جلاؤها لذكر الله"، لذلك جاءت الأديان لتعلم الإنسان ذلك، ولتوضح له الطريق والأسلوب الذى يُمَكِنَهُ من أن يقوى ما فيه من سر الله، حتى يتوازن ويعتدل فى سلوكه ومعاملاته وحركاته على هذه الأرض، والصوم تدريب عظيم يمكن الإنسان من ذلك، فهو يهيئ له الفرصة، ليعيش بمعنوياته وليتفكر فى وجوده الحقى، إنه ليس هذا الجسد فقط، إنه القوة الروحية والحقية القائمة فيه، إنه كان قبل هذا الجسد وسيكون بعد هذا الحسد، إنه سر من أسرار الله، إنه من روح الله ليصنع على عينه "خلقتك لنفسى ولتصنع على عينى"، "ما ظهر الله فى شيئ مثل ظهوره فى الإنسان"، "خلق آدم على صورته".

0.27

فقيام الإنسان في لحظات ظلام إن لم يكن مستعدا لها بقيام صدق في سابق فسيبقى بها.. أما إذا كان مستعدا لها مجتهدا لها في سابق فسيمر بها مرا سريعا.. رابحا منها فائزا فيها.. كذا فإن الإنسان تمر فيه لحظات يشعر بجمال الدنيا.. ويتثاقل إليها محبا لها.. عاشقا إياها.. لا يطلب سواها.. إذا شعر بهذا الحال يوما.. إن لم يكن كذلك معدا نفسه من قبل.. مجتهدا في ذاته.. طالبا الحق فلحظات قيامه في هذا الأمر سيبقى بها تماما كلحظات ظلامه وكلحظات يأسه..

0.27

فإذا نظرنا إلى الدين من هذا المنظور، فإنه سوف يكون في كل لحظةٍ نعيشها، وفي كل حدثٍ نتعرض له، وفي كل تجربةٍ نمر بها، وفي مدى استقبالنا للتجارب التي تحدث في حياتنا، ولتفاعلنا معها، ولفهمها، ولإدراكها، لنخرج من هذه التجربة أو التجارب التي نمر بها، بدروسٍ نستفيد بها في حياتنا وفي سلوكنا.

0.27

فجنوح بعض الناس إلى رفض هذه الطاعة كليةً ـ لأنهم لا يروا فيها حكمة ، هو غير مقبولٍ ، حتى بنفس منطقهم ، فالإنسان في كثيرٍ من الأحيان ـ حتى في العلوم الظاهرية ـ لا يبدأ تجربةً وهو مدركٌ لها كل الإدراك ، وإنما قد يفهمها من خلال ممارسته لها ، ومن خلال تجاربٍ كثيرة. والعبادة هي تجربة ، تجربةٌ روحية ، أن يعيش الإنسان بقلبه وروحه ، فالإدراك يلازم هذه التجربة ، ليس شرطاً أساسياً أن تفهم النتيجة قبل أن تمارس ، ولكن الشرط الأساسي هو أن تتأمل في نتيجة هذه التجربة ، وتحلل نتائجها ، وتحلل حالك ، هل أنت في حالةٍ مستقيمة ، أم أنك في حال غفلة ؟ هل أثرت عليك سلباً أم إيجاباً ؟ ما هو المراد منها وأنت تمارسها ؟ تسأل نفسك وتسأل ربك .

0.27

من هنا أصبح على الإنسان أن يرتب أموره من الداخل ومن الخارج وأن يتعلم كيف يتعامل في كل أمور حياته بمفهوم أن لها جانب روحي.. لأنه بتدريبه لنفسه على ذلك سوف يستطيع أن يحول كل لحظات حياته الى كسب في الله.. وهذا تدريب أساسي إذا إستطاع الإنسان أن يقوم فيه كسب دنياه وكسب أخراه.. فإذا لم يكن الإنسان قادرا على ذلك فعليه أن يستعين بالله وأن يستعين بالصبر وبالصلاة حتى يستطيع أن يحقق لنفسه هذا المعنى.. لا ييأس من رحمة الله ولا يقول أنه لا فائدة من أن أقوم في ذلك وإنما يطمع دائما في الله أن يحقق له ذلك وأن يستطيع أن يرى في حياته وفي معاملاته وفي سلوكه وفي حركاته وفي كل لحظة من لحظات حياته الجانب الروحي فيما يقوم به حتى يكون في معنى العبودية لله..

0.27

ولكن هذا الذي يصبوا إليه بأي صورة من الصور ليس له وجود الآن بمعنى إذا كان طالبا فهو يريد أن يتعلم ليصبح في مكانة ما أو يتمكن من علم ما أو ليصبح قادرا على فعل ما. هو الآن ليس كذلك. فهذا الأمر بالنسبة له غيب وهو يمكن أن يقول أنه لا يمكن أن يصل إليه. أن لا علاقة له به الآن وأنه عليه أن يعيش اللحظة التي يقومها الآن فلا يرهق نفسه في طلب العلم أو في المعرفة أو ما شابه ذلك. لأنه لا يضمن أنه سوف يكون في هذا الذي يريد فهنا بيصبح القضية كمن يلهو على هذه الأرض ويقول نحن لا نعرف ماذا سوف تكون الحياة بعد هذه الأرض علينا أن نعيش هذه اللحظة وفقط. فهو أمر غيبي علينا في كلتا الحالتين مع الفارق أن هذا ممكن أن نعلمه أو أن الغيب هنا نسبي لأنه هناك مثال واضح للإنسان على هذه الأرض فيمن سبقوا في هذا المجال يراه ويعلم أن هذا هو الطريق وإن كان كذلك فهذا لا يعني أن هناك البعض الذين لا يرون هذا المثل أو لا يقدرون أن يتبعوا نفس الخطوات أو لا يريدون أن يرهقوا أنفسهم. أو أنهم منغمسين في شهواتهم وفي لحظاتهم الحالية لا يريدون أن يفكروا فيما سوف يكون فإذا فات الوقت وإذا أصبح الإنسان غير قادر على أن يُحصل. ففي هذه اللحظة يوم يصبح في هذا الوضع بنقول أنه فاته فاتته الفرصة أو فاته القطار في هذه اللحظة لا يُفيد الندم والمعنى يُشير إلى هذه القضية بنجده في الآيات التي تتحدث عن الإنسان بعد هذه الأرض ويقول أرجعنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل فإذا أرجعناهم لعادوا إلى ما نهوا عنه فهم في هذه اللحظة كمن فاته الوقت الذي يمكنه أن يُحصل فيه وبعد أن فاته هذا الوقت يندم على ما فات ويريد أن يرجع إلى الوراء .

0.27